بادرني عبدي بنفسه
حدثنا جندب بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : (
كان فيمن كان قبلكم رجل به جرح ، فجزع ، فأخذ سكينا فحزّ بها يده ، فما
رقأ الدم حتى مات ، قال الله تعالى : بادرني عبدي بنفسه ؛ حرّمت عليه الجنة
) رواه البخاري .
معاني المفردات
فجزع : أي فلم يصبر عن ألم الجرح.
حزّ بها يده : قطع بها يده.
رقأ الدم : انقطع الدم.
بادرني بنفسه : كناية عن استعجال الموت.
تفاصيل القصّة
إذا استؤمن رجلٌ على أمانة ، وأُمر بأن يحافظ
عليها ، ويتعاهدها بالرّعاية والعناية ، ثم رأيناه يبادر إلى إتلافها
وإفسادها ، لكان جديراً بأن يُقال فيه : إنه مضيّعٌ لتلك الأمانة ،
ومستوجبٌ للعقوبة ، ومستحقٌّ للوم والتوبيخ ، والذمّ والتقريع .
إذا كان هذا هو الحال في الواقع ، فينبغي أن
نعلم أن حياة الإنسان وروحه وديعة إلهيّة ، ومنحة ربّانيّة ، لا يحقّ
لصاحبها أن يضيّعها أو يفرّط فيها ، ولا يجوز له مهما كانت الأسباب
والدوافع أن يزهقها ويتخلّص منها .
ولحرص النبي – صلى الله عليه وسلم – على
معالجة هذه الظاهرة السلوكيّة المنحرفة ، لم يدخر جهداً في التحذير منها ،
ولم يترك فرصة في التوعية بخطر الإقدام على مثل هذه التصرّفات الطائشة وغير
المسؤولة ، وما الحديث الذي بين يدينا إلا بيان لخطر هذه الجريمة وحرمتها.
ويدور الحديث حول رجلٍ ممن كان قبلنا ، استعجل الموت والخلاص ، عندما وهنت قواه عن تحمّل ألمٍ أصابه .
ولعلّ الرّجل أُصيب في معركة ما ، أو جُرح في
أحد أسفاره ، ونحن لا نعلم ذلك على وجه التحديد ، والمهمّ أنّه لم يُطق
صبراً على نزف آلامه ، حتى ضعفت نفسه فسوّلت له أن يقطع يده بسكّين ، لينهي
حياته .
تصرّفٌ يسير ظنّ فيه راحته من عناءٍ مؤقّت ،
ولم يدرِ أنه بداية لسلسلة طويلة من العذاب الحقيقي ، بدءاً بحياة البرزخ ،
وما فيها من أهوال وشدائد ، ومروراً بعرصات يوم القيامة ، مكلّلا بذلّ
المعصية ، وانتهاء بدار العذاب والقرار ، بعد أن صدر في حقّه الحكم الإلهيّ
: ( بادرني عبدي بنفسه ، حرمت عليه الجنة ) .
وقفات مع القصّة
يعدّ الانتحار كبيرة في نظر الشرع ، وجريمة
في حقّ النفس ، لكونه تضييعاً للفرصة في اغتنام الحياة ، والاستزادة من
الصالحات ، والفوز بالعتق من النار ، لذلك اشتدّ الوعيد الإلهي على من
يُقدم على مثل هذا الفعل في آيات كثيرة وأحاديث مشتهرة ، يأتي في مقدّمها
قول الله تعالى : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما* ومن يفعل ذلك عدوانا وظلما فسوف نصليه نارا وكان ذلك على الله يسيرا } ( النساء : 29-30 ) ، وقوله تعالى : { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } ( البقرة : 195 ) ، كما أنّ حرمة قتل النفس تدخل دخولاً أوّليّاً في النهي المذكور في قوله تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ( الأنعام : 151 ) .
وجاءت السنّة لتبيّن عظم هذه الجريمة ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (
من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجّأ بها في بطنه – أي يطعن بها بطنه
- في نار جهنم خالدا مخلّداً فيها أبدا ، ومن شرب سماً فقتل نفسه فهو
يتحسّاه – أي يشربه - في نار جهنم خالدا مخلّداً فيها أبداً ، ومن تردّى من
جبل فقتل نفسه فهو يتردّى في نار جهنم خالدا مخلّداً فيها أبداً ) رواه مسلم .
ومما يتّصل بفقه هذه الجريمة ، أن لولي الأمر
الامتناع عن الصلاة على من قتل نفسه ؛ تحذيراً للناس أن يحذوا حذوه
ويقتدوا بفعله ، كما دلّ على ذلك حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُخبر أن رجلاً قتل نفسه ، فقال : ( إذاً لا أصلي عليه ) رواه الإمام أحمد و أبو داود .
وإذا كان بعض ضعاف النفوس قد يقدمون على هذا
الفعل الشنيع هروباً من الواقع ، وما يواجهونه من ضغوطٍ نفسيّة ، وصعوباتٍ
اجتماعيّة ، أو غير ذلك من أسباب ، فإنّ المؤمن الحقّ يلجأ إلى ربّه في
الشدائد ، ويدعوه في الملمّات ، ويواجه المصاعب بثبات ، ويتوكّل عليه في
أمره كلّه ، لأنّه يعلم أنه يلجأ إلى الركن الركين ، والحصن الحصين ، وهو
يعلم علم اليقين أنه سبحانه هو الذي : { يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء } ( النمل : 62 ) ، فحاله بين الشكر والصبر ، كما قال – صلى الله عليه وسلم - : (
عجباً لأمر المؤمن ، إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن
أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ) رواه مسلم .
ومما يجدر التنبيه عليه أن الوعيد الوارد في
حقّ قاتل نفسه ، من التخليد في النار ، لا يعني الحكم بكفره ، بل هو مسلم
عاصٍ ، وأمره إلى الله تعالى ، إن شاء تجاوز عن سيّء فعله ، وإن شاء عاقبه
وعذّبه ، وبيان ذلك في قوله عزّ وجل : { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء } ( النساء : 48 ) ، وقد جاء في السنّة صراحةً ما يدلّ على ذلك ، فقد أخبر الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه أن أحد الصحابة قطع يده فمات ، فرآه الطفيل رضي
الله عنه في منامه وهيئته حسنة ، ورآه مغطيا يديه ، فقال له : " ما صنع بك
ربك ؟ " فقال : " غفر لي بهجرتي إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم – " ، ودعا
له النبي عليه الصلاة والسلام بقوله : ( اللهم وليديه فاغفر ) رواه مسلم .
ومن فقه هذه المسألة أيضاً ، أن نعلم معنى (
الخلود ) المذكور في حقّ المنتحر ، بأن المقصود منه - كما ذكر العلماء - ،
طول المكث في جهنّم ، جمعاً بين الحديث وبين النصوص الأخرى التي تشير إلى
خروج أصحاب التوحيد ، ممن كان يحمل في قلبه ذرّة من إيمان ، إلا من فعل ذلك
على وجه الاستحلال ، فيكون كافراً باستحلاله ، لا بفعله .
وكذا ما ورد في قوله – صلى الله عليه وسلم - : (
حرّمت عليه الجنّة ) ، فإنه خرج مخرج التغليظ والتخويف ، وأن التحريم
محصور في الوقت الذي يدخل فيه السابقون في الجنّة ، والذي يُعذّب فيه عصاة
الموّحدين في النار ، كما قال الحافظ ابن حجر في "الفتح".